منذ بداية انتشار فيروس كورونا أواخر سنة 2019، رافق هذا الانتشار العديد من الأخبار والادعاءات التي اختلفت درجة صحتها (زائفة، زائفةجزئيا، مضللة، صحيحة وأحيانا ساخرة أو غير مؤهلة).
ومن بين الأخبار التي أحدثت جدلًا كبيرًا، نجد تلك التي تتناول مصدر الفيروس وتحاول كشفه.
ولعل أكثرها إثارة للجدل مؤخرًا ما انتشر بأن فيروس كورونا مصنّع مخبريًا بسبب احتوائه على بعض الأجزاء المتشابهة مع تلك التي يحتويها فيروس الإيدز.
حمل الادعاء منذ بداية انتشاره العديد من الصيغ وأرفق بالعديد من الوسائط من صور وفيديوهات,
ولكن من بين أكثرها انتشارًا، المقطع الذي نشره الدكتور الجزائري المسمى لطفي على صفحته على فيسبوك بتاريخ 19/04/2020 مرفقًا النص الآتي:
“الأمر خطير خطير فيروس كورونا يحتوي على حصة من فيروس الأيدز (سيدا)”
Situation Grave :
Le Coronavirus possède une séquence du virus du sida (VIH)
حقق الفيديو أكثر من 3 ملايين مشاهدة، وأعيد نشره أكثر من 71 ألف مرة حتى تاريخ تحرير هذا المقال في 04/05/2020.
حمل الادعاء في طياته العديد من الأقوال, ولكن قرر الفريق التركيز على النقطة الرئيسة و هي قوله:
إن فيروس كورونا المسبب للجائحة الحالية هو عبارة عن فيروس مصنوع مخبريا،
ودليله في ذلك هو أن البروفيسور الفرنسي Luc Montagnier الحائز على جائزة نوبل سنة 2008 هو من أخبر بذلك.
هل صرح البروفيسور بذلك؟
بعد البحث، وجدنا أنّ البروفيسور الفرنسي أخبر بذلك فعلًا في لقائين صحفيين؛ الأول منشور على موقع pourquoi docteur في 16/04/2020 والثاني على موقع CNews في 17/04/2020.
وقد أخبر البروفيسور بأن فيروس كورونا (Sars-Cov-2) هو عبارة عن صناعة مخبرية، إذ أضيف إليه قطعة من الحمض النووي لفيروس الإيدز،
وعند سؤاله عن سبب ذلك قال إنّه يعتقد أن الهدف كان محاولة تطوير لقاح للإيدز.
في إطار سياسة المنصة الهادف إلى محاولة خلق حس نقدي عند القارئ العربي، قرر الفريق طرح الصورة الكاملة للقارئ والاكتفاء بإدراج المقال في خانة “رأي“.
مقالات “رأي” من منصة فتبينوا هي المقالات التي تنشرها المنصة بهدف تقديم الصورة الكاملة بالمصادر، للقارئ العربي حول موضوع ما،
وترك حرية الحكم له في تصنيف المعلومة التي يحتويها الخبر (زائف، زائف جزئيا، مضلل أم صحيح).
أولًا، منهجية البحث العلمي:
باختصار وبصفة عامة، تقوم منهجية البحث في العلوم التجريبية مثل الطب على المبدأ التجريبي،
إذ يتم طرح فرضية ما، ومحاولة إثبات مدى صحتها (أو أحيانا محاولة دحضها)،
عبر سلسلة من التجارب (المخبرية أو الميدانية…إلخ) التي تخضع لقوانين وشروط معينة (في أخذ العينات، إجراء التجارب، تفسير النتائج …إلخ).
بعد إجراء التجارب وجمع النتائج وتفسيرها، يُعدّ الباحث ورقة بحثية يستعرض فيها ما توصل إليه وينشرها بعد ذلك في واحدة من المجلات العلمية،
وقبل أن تُنشر الورقة البحثية في المجلة العلمية، تخضع لعملية التدقيق إذ يدقّقها علماء وباحثون آخرون متخصصون في المجال نفسه،
وعلى ذلك، يقومون بنقد البحث من عدة جوانب (طرق أخذ العينات، كيفية إجراء التجارب وتفسيرها…إلخ) والتأكد من خلوها من أي أخطاء، وبعد ذلك كلّه تُنشر الدراسة.
ولكن ينشر بعض الباحثين أحيانًا أبحاثهم على مواقع لا تعتبر مجلات علمية،
لأنها لم تُدقّق قبل النشر، ومن أشهرها في الطب موقع medRxiv و bioRxiv.
لا ترقى الأوراق البحثية المنشورة على هذه المواقع إلى درجة الدراسات التي يعتمد عليها بعد،
ذلك أنّ أهل الاختصاص لم يدقّقوها ويصحّحوا ما قد يقع فيها من أخطاء علميّة ومنهجيّة،
فالهدف من النشر في هذه المواقع هو السرعة في إيصال نتائج البحث، أو الحصول على أكبر قدر من النقد البنّاء من المختصين في المجال العلميّ نفسه.
يعتبر تدقيق أهل الاختصاص قبل نشر البحوث العلميّة أحد أهم طرق النّقد البنّاء التي ساهمت في التطور العلمي بشكل كبير على مر التاريخ،
كما أنّ نوعية وجودة المجلة العلمية مرتبطة بشكل مباشر بعوامل عدّة، أبرزها: نوعية التدقيق الذي تناله الأوراق البحثية قبل النشر في تلك المجلة.
بماذا استدل البروفيسور الفرنسي على كلامه؟
صرّح البروفيسور الفرنسي أنه لم يقم بأي أبحاث تجريبية مخبرية على الفيروس، إنما استدل على كلامه بدراستين:
الدراسة الأولى:
هي تلك التي أجراها فريق البحث الهندي، والتي لم تنشر في أي مجلة علمية،
وإنما نُشرت في شهر فبراير/ شباط الماضي على موقع bioRxiv فقط، أي أنها لم تنل أي تدقيق بعد.
ادعت الورقة البحثية أنه بعد تحليل التسلسل الجيني لفيروس كورونا، اتضح أنه يحمل جزءًا مطابقًا لأحد الأجزاء الموجودة في الحمض النووي لفيروس السيدا،
وأن هذا الجزء لا يمكن أن يكون صدفة، بل هو عبارة عن صناعة مخبرية.
ما كان الجواب عن الدراسة؟
كون هذه الدراسة قد نُشرت علنًا، وبما أنّ الكلام الذي تضمّنته خطير جدًّا، أثارت الدراسة جدلًا واسعًا وكانت موضع تدقيق من طرف العديد من العلماء المختصين في المجال:
الباحث في علم الفيروسات Trevor Bedford أحد أبرز المختصين في المجال، استعمل حسابه على تويتر لاستعراض تدقيقه للدراسة،
وقد كان ملخّص كلامه أنّ القطع التي يتشابه فيها فيروس كورونا مع فيروس الإيدز هي مجرد قطع صغيرة،
يمكن العثور عليها في عدة كائنات أخرى مثل Cryptosporidium المتسببة في العديد من الاضطرابات الهضمية،
وأيضًا Plasmodium malariae المسببة للمالاريا.
وذلك لا يعني أبدًا أن أحد تلك الكائنات هو مصدر الكائن الآخر.
الباحثة Silvana Konermann من جامعة ستامفورد بكاليفورنيا دقّقت الادعاءات التي حوتها الورقة البحثية أيضًا، ووصفتها بـ”الزائفة“.
كما لاقت الدراسة انتقادات عدّة وردودًا أخرى كثيرة نُشرت في مجلات علمية مثل هذا البحث.
سُحبت الورقة البحثية بعد كل تلك الانتقادات والتفنيدات من الموقع،
وقد صرح أحد ناشريها بأنّ فريق البحث سيعيد مراجعة الورقة بناءً على الملاحظات التي وصلتهم،
وأكد أنه لم يكن قصدهم إثارة نظريات المؤامرة التي انتشرت.
بالرغم من ذلك، استدل بها البروفيسور الفرنسي وادّعى أنّها سُحبت من الموقع بسبب الضغوط،
ردّ العديد من العلماء على البروفيسور شخصيًّا (مثل هذا)،
وقد لاقى انتقادًا واسعًا حتى من طرف علماء من معهد باستور الفرنسي (معهده السابق)،
وقد قال الباحث Etienne Simon-Lorière إنّ الأمر غير صحيح، وضرب مثالًا واضحًا بقوله: إنّه إذا وجدنا الكلمة نفسها في كتابين مختلفين، فلا يمكن القول إنّ كلمة أُخذت من الأخرى،
فبيّن بذلك أنّ القطعة المشتركة بين الفيروسين هي مجرد كلمة في كتاب،
ويمكن أن نجد هذه الكلمة في العديد من الكائنات الأخرى.
الدكتورة Alia Abukiwan المتخصصة في ال epigenitics من جامعة هايدلبرغ بألمانيا،
إستغلت بدورها صفحتها على الفايسبوك وقامت بنشر شرح لمقارنة التسلسل الجيني التي أجرتها بين فيروس كورونا وفيروس الإيدز HIV1 باستخدام برامج التطابق BLAST،
وقالت أن العلم هو الفاصل، والعلم يقول بانه لا وجود لأي علاقة بين الفيروسين،
وأن التشابه الملاحظ في قطع صغيرة هو ذات التشابه مع العديد من الفيروسات الأخرى، مثل فيروسات البرد الأخرى OC43 وE229، وهذا لا يعني أن كل هذه الفيروسات أصلها واحد.
الدراسة الثانية:
الدراسة الثانية التي انتُقدت هي التي أجراها Jean-claude Perez وهو زميل البروفيسور الفرنسي الذي تحدث عنه في لقائه الصحفي، وقد نشرت هذه المرة في مجلة علميّة،
كانت الردود على هذه الدراسة هي الردود نفسها على الدراسة السابقة، أي أنّ التشابه هو مجرد كلمة في كتاب،
إضافة إلى أن المجلة التي نُشرت فيه الدراسة الثانية هي واحدة من المجلات التي توجد في القائمة السوداء الشهيرة لـ Jeffrey Beall للمجلات ذات التدقيق الضعيف والمشكوك فيه.
لكن بعد بحثنا أكثر، وجدنا أن زميله أجاب في التعليقات على أحد السائلين بأن البروفيسور لم يكن يقصد هذه الدراسة،
ولكن قصد دراسة أخرى ستنشر فيما بعد.
الدراسة الثالثة:
بالفعل، نُشرت الدراسة في 25/04/2020 وقد كان اسم البروفيسور الفرنسي موجودًا عليها،
ولكنّها كانت منشورة على موقع ResearchGate فقط، أحد المواقع التي تسمح بنشر الأوراق البحثية من دون تدقيق، ولا تعتبرها كدراسات بعد،
منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا (04/05/2020) لم تنشر الدراسة في أي مجلة علمية، أي أنه لم يتم تدقيقها بعد،
كما لم نجد أي مجهود فردي من علماء آخرين لتدقيقها.
في الجهة المقابلة!
منذ فكّ الشيفرة الوراثية لفيروس كورونا ونشرها على العلن، اجتهد الكثير من الباحثين لمحاولة معرفة مصدر هذا الفيروس الجديد،
ومن أبرز الدراسات وأقواها هي تلك المنشورة في مجلة Nature واحدة من أرقى المجلات التي تقدم تدقيقًا ممتازًا قبل النشر،
وقد خالفت هذه الدراسة البروفيسور الفرنسي بتأكيدها على أن الفيروس مصدره طبيعي.
بعد إجراء العديد من الدراسات الأخرى عن نفس الموضوع،
نشر العديد من الباحثين في واحدة من أعرق المجلات الأخرى وهي Lancet مجموعة من نحو 12 دراسة مدقّقة أخرى أكّدت المصدر الطبيعي لفيروس كورونا.
ليكون بذلك راي المجتمع العلمي مخالفًا لرأي البروفيسور الفرنسي، ولكل واحد منهم دليله ولكل دليل جودته.
توضيح بشأن الأوراق البحثية غير المدققة:
بعد انتشار وباء كورونا في جميع أرجاء العالم وحصده الكثير من الأرواح، كانت معرفة خصائص هذا الفيروس الجديد حاجة ملحّة،
فتسارعت بذلك وتيرة الأبحاث، وكان بعض الباحثين يقومون بنشر أبحاثهم قبل تدقيقها على المواقع السابق ذكرها،
بهدف الإسراع في إيصال المعلومة أحيانًا، وأحيانًا أخرى بهدف الحصول على أكبر قدر من النقد البناء، وغير ذلك من الأسباب،
لكن العديد من هذه الدراسات أحدثت جدلًا كبيرًا بعد تناقلها من دون توضيح أنها دراسات غير مدققة بعد،
ممّا أدى إلى انتشار العديد من المفاهيم غير الدقيقة، وخير مثال على ذلك ما أحدثته الدراسة الهندية السابق ذكرها،
إضافة إلى عدة أفكار اخرى منتشرة حاليًا مثل القول المنتشر بأن بعض فصائل الدم أكثر إصابة من الأخرى، وأن الفيروس يهاجم الكريات الدموية، وقول إن القطط تنشر الفيروس.
وبذلك نغتنم الفرصة وننبّه قراءنا الأعزاء بأن ذلك يستند إلى أوراق بحثية غير مُدقّقة بعد، وتبقى المعلومة التي تحتويها غير مؤكدة حتى تُقبل بعد التدقيق.
ما هو دوري في ظل انتشار فيروس كورونا مصحوبًا بهذا الكم الكبير من الأخبار الزائفة؟
أهم شيء يمكن القيام به هو اتباع التوصيات التي تقدمها الجهات الرسمية كمنظمة الصحة العالمية والجهات الرسمية في دولتك،
كما ننصح بالابتعاد عن نشر المعلومات المتعلقة بالوباء من دون التحقق منها،
وذلك لأن أغلبها زائف، أو على الأقل غير دقيق (راجع هنا)،
يمكنك التواصل مع فريق فتبينوا عبر مراسلته في مختلف حسابات المنصّة في وسائل التواصل الاجتماعي التي تجدها في هذا الموقع،
في حال شككت في أحد الأخبار أو أردت التحقق منها.
المصدر1
المصدر2
المصدر3
المصدر4
المصدر5
المصدر6
المصدر7
المصدر8
المصدر9
المصدر10
المصدر11
المصدر12
المصدر13
المصدر14
المصدر15
المصدر16
المصدر17
المصدر18
المصدر19
المصدر20
المصدر21
المصدر22
المصدر23
المصدر24
المصدر25
المصدر26
المصدر27