التوحّد بين اعتدال العلم وغلوّ هوليوود

آخر المقالات

بين شيلدون كوبر و”الطبيب الجيِّد”… ما هي الصورة الحقيقيَّة للتوحُّد؟

الطبيب الجيِّد!

شون مرفي، طبيب جراحة مقيم في مشفى سانت خوسيه سان بونيفيتشه والمُصاب بالتوحُّد وما يُطلق عليه متلازمة سافنت (متلازمة تُطلق على أي شخص مُصاب بإعاقة عقليَّة شديدة يُظهر قدرات مُحدَّدة تتخطى السائد، وغالبًا ما تتعلق بالذاكرة، وبحقول مثل الحساب السريع والفنون) يظهر لنا بالصورة النمطيَّة للمُصاب بالتوحُّد بكونه العبقريّ الذي لا يستطيع فهم التواصل الاجتماعي.
للتوحُّد، أو اضطراب الطيف التوحدي كما أصبح يُدعى منذ عام 2013، تاريخ طويل غير علميّ دائمًا مع الإعلام وبالأخص السينما والمسلسلات التفلزيونيَّة التي استطاعت وما تزال تستطيع أن تُشكِّل صورة حالمة قليلًا لهذا المرض العصبي التطوُّري، صورة قد تكون غير صحيحة دائمًا ولكن مُلطِّفة قليلًا له، وبينما استطاعت أن تقلل وصمته الاجتماعيَّة، إلا أنها نشرت نظرة غير واقعيَّة لمريض التوحُّد غير آخذة بعين الاعتبار أي شكل آخر للمرض.

 

“لست مجنونًا! قامت أمي بجعلهم يفحصونني!” —شيلدون كوبر.

 

 

عبقريُّنا المُفضّل شيلدون كوبر

ربما من هو أشهر من “الطبيب الجيِّد”، هو فيزيائينا المُفضَّل شيلدون كوبر، بذكائه المُفرط وصعوبة تواصله اجتماعيًّا حيث يُعتبر القالب التقليدي للمُصاب بالتوحُّد قي الإعلام، تلك الصورة اللطيفة والطريفة للعبقري غير الواعي اجتماعيًّا، ولكن شيلدون نفسه يذكرنا أنه غير مُصاب بالتوحُّد، فقد “قامت أمه بجعلهم يفحصونه!”

هذا بالإضافة أيضًا لرفض صانعي المسلسل إطلاق صفة “المتوحِّد” عليه، رافضين أن يتم تشخيص شخصياتهم بأمراض معيَّنة، ولكن إن نظرنا جيِّدًا لتصرُّفات كوبر من التصرُّفات الوسواسيَّة واختلال تواصله الاجتماعي وعدم قدرته على فهم السياق الكلامي والسخريَّة بالإضافة لقلقه المرضي وعبقريته، فإن التشخيص يُصبح واضحًا قليلًا شيلدون كوبر حسب هذا التحليل يقع على الطيف التوحُّدي (بالإضافة لإصابته بمتلازمة سافنت أيضًا. 

بغض النظر عن شيلدون أو الطبيب شون مرفي، يمدح الكثيرون عرض هذه الشخصيَّات في الإعلام، فقد اقتصر عرض الشخصيَّات المُصابة بالتوحُّد سابقًا بالأطفال في الغالب، أما أن ترى بالغًا مصابًا بالتوحُّد وفعَّال أيضًا كفرد في المُجتمع ويملك عَمَلًا وحياة اجتماعيَّة (تتركَّز على ألعاب الفيديو ولعبة D&D في حالة شيلدون) فإنَّه أمر نادر، حتى لو كان عَمَلًا كوميديًّا، خاصَّة في ظل ضعف عرض شخصيَّات مصابة بأمراض عصبيَّة أو عقليَّة أو نفسيَّة بشكل عام في الإعلام كشخصيًَات ليست إيجيابيَّة أو سلبيَّة، بل موجودة، تعيش وتعمل وتتفاعل في مجتمعها.

ولكن هذا العَرض للمرض من جهة واحدة قد يكون مُضلِّلًا ومخادعًا أحيانًا، لا يُعطي فكرة خاطئة ولا حتى حالمة فقط بل منقوصة، تجعل الجزء الآخر من هذا المرض، ذاك الجزء المُظلم أو حتى المُتعِب للمريض وأهله ومن يهتم به، غير ظاهر للمجتمع أو معروف لهم.

 


-هانز أسبرينجر مع أحد مرضاه الأطفال في جامعة فينا في ثلاثينيَّات القرن الماضي-

التوحد اصطلاحًا!

يُعتبر وصف الطبيب جون لانغدون داون في عام 1887 (الذي كان أوَّل من وصف متلازمة داون قبلها بسنة) لما أسماه “التخلُّف التطوُّري” أول وصف وُضع لمن يُصنفون بإصابتهم بالتوحُّد اليوم، ولكن مصطلح “التوحُّد” أو autism (من الكلمة اللاتينيَّة autis بمعنى نفس) استُخدم أوَّل مرَّة ككلمة في عام 1911 لوصف نوع شديد من الفصام أو السكتزوفرينيا يُصبح فيه المريض ضحيَّة للتوهمات والخيالات لدرجة فيها يُصبح مُتصلِّبًا (catatonic) غير قادر على التواصل مع العالم الواقعي.

تاريخ اكتشاف التوحد:

في ثلاثينيَّات القرن الماضي قام أسبريجر بنشر ورقة بحثيَّة ثوريَّة باللغة الألمانيَّة بقيت مغمورة لأكثر من خمسين سنة، وصف فيها أطفالًا مصابين بما نعرفه اليوم باسم التوحُّد، بالإضافة لوصف الطبيب ليو كونر له في الأربعينيَّات كذلك، ولكنَّ ورقة أسبرنجر لم يتم الكشف عنها حتى الثمانينيَّات ليعود له الفضل في وصف حالة معيَّنة من التوحُّد يكون فيها المُصاب يعاني من أعراض أقل حِدَّة.

بحلول عام 1980 تمَّت إضافة التوحُّد للدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقليَّة الثالث (DSM-III) تحت اسم التوحُّد الطفولي (Infantile autism) ليتم لاحقًا تغييره للاضطراب التوحُّدي، وفي 2013 حصل على اسمه المُتعارف عليه حاليًّا: الطيف التوحُّديّ.

على أي أساس يتم تشخيص التوحد:

يلزم للتشخيص بالتوحُّد حسب آخر لدليل تشخيصي إحصائي للاضطرابات العقليَّة (DSM-V) أمران أهمهما خلل في التواصل أو التفاعل الاجتماعي لأنَّه أهم سمة تُميِّز التوحُّد عن الاضطرابات التطوُّريَّة الأخرى، والثاني هو أي تصرُّفات تقع تحت أنماط السلوك المتكرر أو المقيَّد والتي تشمل الحركات المُكرَّرة كرفرفة اليدين أو السلوك المُقيَّد كالاهتمام بمسلسل تلفازي واحد أو اللعب بلعبة واحدة وغيرها.

“كعالم بعلم الإنسان على المريخ”
تيمبل غراندين، أستاذة علم الحيوان في جامعة كولورادو والمُتحدِّثة باسم التوحُّد.

 

تصف تيمبل غراندين، التي تقع على الطيف التوحُّدي والتي وصف طبيب الأعصاب والمؤلِّف أوليفر ساكس لقاءه معها في كتاب له عن المرض، محاولة فهمها للتواصل الاجتماعي لدى الأشخاص الذين حظوا بتطوِّرعصبيَّ نمطيّ؛ بعالم علم إنسان موجود على المريخ.

فالخلل في التواصل الاجتماعي لدى المُصابين بالتوحُّد يظهر في التواصل أو التفاعل الاجتماعي باكرًا في الطفولة في العادة، جاعلًا فهم طُرق التواصل الاجتماعي التي يعتبرها باقي الناس من المُسلَّمات أمرًا صعبًا وغريبًا.

 

أمثلة على تصرفات الأطفال المصابين بالتوحد:

– يستجيب الأطفال الذين يقعون على هذا الطيف بشكل أقل للابتسامة الاجتماعيَّة .
– ينظرون للآخرين بشكل أقل.
– لا يستجيبون لأسمائهم عند منادتهم بها.
– لا يستطيعون استخدام حركات بسيطة ليُشيروا لما يريدونه.

ويظهر هذا الخلل بدرجات مختلفة ومتفاوتة لاحقًا، من عدم القُدرة على التواصل بالعين وحتَّى عدم القدرة على التواصل بالكلام نهائيًّا في ثلث من المُصابين.

المطاعيم واللقاحات لا تسبب التوّحد!

ليس للتوحُّد سبب معروف أو آليَّة مرضيَّة مفهومة، ما نعرفه هو أنَّه يحصل بسبب خليط من العوامل الجينيَّة والبيئيَّة، ولعوامل مثل الإصابة بالحصبة الألمانيَّة أثناء الحمل واستخدام أدوية مُعيَّنة وشُرب الكحول صلة به، ولكن ما للمطاعيم واللقاحات علاقة به إطلاقًا.

أهداف علاج التوحد:

يهدف علاج التوحُّد في العادة:
– تقليل العجز المُصاحب له.
– التقليل من الضغط على الأسرة.

ولذلك ما من علاج مُحدَّد بل خُطَّة علاجيَّة تناسب كل طفل على حدى، بحيث تتكوَّن الخُطة من الجلسات العلاجيَّة بأنواعها بالإضافة لأي أدوية قد يحتاجها الطفل.

ومن الجدير بالذكر هُنا هو أنَّه من ناحية علميَّة ما من جدوى للعلاجات البديلة هنا، سواء االحميات الغذائَّية بأنواعها أو الأعشاب وغيرها، بل قد تضر الطفل في بعض الأحيان أكثر من أن تنفعه.

 

تجارب من الواقع مع التوحد!

يجب أن أعترف أنني لم أكن قد شاهدت شيئًا من برنامج الطبيب الجيِّد عندما قررت كتابة هذا المقال (شاهدتُ المقطع الإعلاني لاحقًا،) ولكنني تعاملت وما أزال أتعامل مع أطفال مصابين بالتوحُّد في عيادة الأعصاب للأطفال كطالبة طب ومُهتمَّة بعلم الأعصاب، لم أرَ ذاك العدد الكبير الذي قد يراه طبيب أعصاب أطفال، ولكني رأيت بما يكفي لأعرف تأثير هذا المرض على الأطفال المُصابين به وأهاليهم.
تعاملت مع آباء كانوا مقتنعين تمامًا بتشخيص أطفالهم وآخرون غير مقتنعين تمامًا، كلهم يبحثون عن إشارة ولو بسيطة لتحسِّن طفلهم، كأن يتكلَّم بمساعدة جلسات العلاج للمرَّة الأولى، أو أن يتوقَّف عن ضرب رأسه بالطاولة ويلعب مع إخوته، أو حتَّى أن ينظر باتجاه من ينادي اسمه.
أي إشارة بسيطة لتعطيهم أملًا بأن طفلهم سيستطيع التفاعل في المجتمع كشخص بالغ قادر على الاعتناء بنفسه، ولذلك عندما سمعت عن “الطبيب الجيِّد” ونيَّة صانعي المُسلسل أن يكون بطلهم شخصًا يقع على الطيف التوحُّدي، كان لا بُّدَّ لعقلي الذي رأى كيف يُمكن أن يكون هذا المرض بأكثر صوره التدميريَّة، أن يرفض أو على الأقل ينزعج من تلك الفكرة بأن يُعرض هذا المرض بطريقة للتلاعب بمشاعر الجمهور.
مع كل ما قيل، ربما ما زلنا بحاجة لرؤية أشخاص لا يقعون بالضرورة تحت مفهوم البعض لكلمة “شخص طبيعي” في الإعلام، ولكن مع التذكير بالواقع الذي يقول أن نسبة أولئك المُصابين بالتوحُّد التي تتراوح من 0.5-10% الذين يمتلكون قُدرات غير عاديَّة مُحددَّة تتراوح من قدرة مُذهلة على حفظ التفاصيل لمواهب غير عاديَّة مثل شون مرفي المُصاب بمتلازمة سافنت، هي نسبة صغيرة جدًّا من الباقين الذي تحرمهم حالتهم العصبيَّة (خاصَّة في حالة عدم امتلاكهم لوالدين متفهمين ومُجتمع يسعى لعلاجهم بطرق لا أصل علمي لها أو من لا يستطيعون الحصول على الجلسات العلاجيَّة الباهظة الثمن في العادة) من أن يُقبلوا في المُجتمع ويُصبحوا أفرادًا مستقلين ومعتمدين على أنفسهم.

مصدر1
مصدر2
مصدر3
مصدر4
مصدر5
مصدر6
مصدر7
مصدر8
مصدر9
مصدر10

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.